الثلاثاء, 04 سبتمبر 2007 11:07 أ.عيسى بن محمد بوراس
تعتبر الأرض قطاعا استراتيجيا مرتبطا أساسا بالجانب الاجتماعي والاقتصادي للسكان، فكلّما أحسن تنظيمها واستغلالها كلّما ساهمت في الازدهار والتقدم، فالعلاقة بين الأرض والإنسان هي علاقة روحية أبدية تتفاعل باستمرار وهي بهذا أسمى من أن تكون مجرّد قيمة مالية، فالملكية ولاسيما الملكية العقارية ستبقى من الاهتمامات الأساسية لنشاط الإنسان، ذلك بسبب الأمن النفسي والمادي والروحي والحضاري الذي توفّره للإنسان.
تؤكد بعض المراجع على وجود سوق عقارية داخل المدينة وخارجها قبل الاحتلال الفرنسي، وأنّ إدخال السوق العقارية من طرف الفرنسيين للجزائر هو إسراع في تكريس هذه السوق ولكن لصالح الفرنسيين، فبروز سوق عقارية في الجزائر هو مسار طبيعي لا علاقة له بالوجود الفرنسي.
فالأرض أي العقار بالامتياز الذي كان يستعمل خاصة في الزراعة، قد أصبح يستعمل فيما بعد كأساس لبناء ملجأ يأوي الأفراد والأسر، أي استعماله لبناء مسكن، فأصبح المسكن بمختلف أنواعه سواء كان ريفيا أو حضاريا من الحاجات الأساسية للأفراد والمجموعات.
ومع تزايد النمو الديموغرافي واتساع رقعة المدن وارتفاع مستوى المعيشة أصبحت الحاجة للأراضي الصالحة للبناء في تزايد أكثر فأكثر، بالإضافة إلى كلّ الاستعمالات أصبح الطلب كذلك على ما يسمّى بالعقار لأغراض صناعية وتجارية في ارتفاع مستمر.
ومن هنا أصبحت تطرح إشكالية الحصول على الأموال العقارية وكذلك التفكير في المحافظة عليها.
لكلّ هذه الأسباب بدأت شيئا فشيئا تظهر إلى الوجود سوق عقارية مثل باقي دول العالم، سواء أكانت هذه السوق حرة أو موّجهة إداريا، وبالتالي أصبحت السوق العقارية تكوّن شرطا من الشروط الأساسية للحصول على العقار. فالسؤال المطروح إذا: ما موضع الجزائر من هذه السوق؟
نظرا الرهان الكبير الذي يمثّله العقار في الجزائر فإنّ الاشكالية العقارية قبل أن تصبح واقعا قانونيا أي قبل أن تتّخذ الشكل القانوني فإنّها أوّلا هي واقع سياسي.
ونقصد بالواقع السياسي هو الصراع بين الفئات الاجتماعية المختلفة للحصول على السلطة والاحتفاظ بها، ومنه الحصول على العقار ثمّ حمايته والحفاظ عليه. فالنظام القانوني للملكية العقارية في الجزائر كان وما يزال مرتبطا بالتحولات السياسية قبل وبعد الاستقلال.
إنّ تحليل النصوص القانونية الصادرة ما بعد الاستقلال نستشفّ منها الصراع من أجل مراقبة الأموال العقارية، بمعرفة الأهداف التي من أجلها صدرت تلك النصوص.
وإذا جئنا إلى المرحلة الانتقالية التي تعيشها الجزائر نلاحظ صدور قوانين تفتح المجال للسوق الحرة واقتصاد السوق باحتشام، فهي تخفي صراعا بين إرادتين لبسط الرقابة على الأموال العقارية. الأولى: التي لا يمكنها الحصول على الأموال العقارية إلاّ عن طريق وجود سوق عقارية، فهي تصارع من أجل إبقاء هذه السوق وتوسيعها ثمّ تحريرها، والثانية: تصارع من أجل إنكارها أو على الأقل تصارع من أجل وجود سوق عقارية مسيّرة إداريا، وهناك من يسمّيها صراع بين أنصار الصالح العام وأنصار المصالح الخاصة.
يقول "جورج بيردو" أستاذ في علم السياسة: إذا كان بالنسبة للعلوم القانونية تؤخذ بعين الاعتبار فقط، القواعد القانونية سواء كانت بصفة منعزلة أو في إطار النظام الذي تكوّنه أي العالم القانوني، إلاّ أنّ هذا العالم موجود بداخل عالم أكثر اتساعا، فهذا العالم القانوني هو نتاج لقوى تعمل خارجه، وبالتالي فإنّه يتعرّض للآثار العنيفة أو الخفيفة المترتّبة عن تصرفات هذه القوى، إنّ موضوع علم السياسة هو بالتدقيق دراسة هذه القوى. ويضيف "ليفي بريهيل": فالقواعد القانونية لبلد ما هي مرآة عاكسة لتمنّياته وعلاقات القوى التي تعمل بداخله.
إذا لا يمكن فهم وتطوّر وسير السوق العقارية في الجزائر من الاستقلال إلى يومنا هذا دون ربطها بطبيعة الدولة الجزائرية والمراحل التي مرّت بها.
وبتحليل أدقّ فالرهان المتعلق بالعقار بالنسبة للجزائريين بدأ منذ سنة 1962 مع شغل المواطنين بعد رحيل الفرنسيين لما كان يعتبر آنذاك "بالأملاك الشاغرة" سواء كانت هذه الأملاك ذات طبيعة سكنية أو فلاحية أو صناعية أو أخرى. إضافة إلى هذا، فإنّ ظاهرة التعمير والبناء اكتسحت تقريبا كامل التراب الوطني، فبات العقار محل اهتمام كبير، وهكذا ازداد الطلب على الأموال العقارية في الجزائر من طرف أغلب فئات المجتمع إن لم نقل كلّها فهي علامة للترقية الاجتماعية والاقتصادية.
إنّ ظاهرة التعمير التي كان سببها ارتفاع الولادات من جهة والنزوح الريفي من جهة أخرى، وبالمقابل نموذج التنمية المتبع من طرف السلطات العمومية منذ الاستقلال وما تولّدت عنه من نصوص قانونية، لا يعتبر السبب المباشر في هذا الصراع على العقار، فهي نتيجة لسبب مباشر، أمّا السبب المباشر فيرتبط ارتباطا وثيقا بالتحوّلات السياسية التي عاشتها الجزائر مع بداية الاستقلال، ونقصد بالتحولات السياسية الصراع حول السلطة بين مختلف الفئات الاجتماعية والاستيلاء على الدولة، وبطبيعة الحال؛ فإنّ الفئة الاجتماعية التي ستستوْلي على السلطة وبالتالي على الدولة ستشرِّع النصوص التي ستتطابق معها اقتصاديا واجتماعيا ولا يستثنى من هذا المبدأ المجال العقاري.
فالإشكال المطروح إذاً في إشكالية الدولة (la problématique de l’état) وبصفة أكثر دقّة، فالإشكالية تتعلق بطبيعة الدولة (la natur de l’état) فالتشكيلة الاقتصادية والاجتماعية للدولة الجزائرية مرّت منذ الاستقلال وما زالت تمرّ إلى اليوم بتيّارين متناقضين، من جهة التيار الذي يميل إلى رأسمالية الدولة والذي يعتبره البعض التيار البيروقراطي ويسمّى كذلك بالبورجوازية البيروقراطية، وهي الفئة التي تعتبر من أنصار السوق المسيّرة إداريا. ومن جهة أخرى التيار الذي يميل إلى الرأسمالية الليبرالية وتسمّى كذلك بالبورجوازية الليبرالية، وهي الفئة التي تعتبر من أنصار السوق العقارية الحرة.
وبهذه المكانة القانونية للأموال العقارية أي الوضعية القانونية للسوق العقارية في دولة أصبحت ابتداء من الاستقلال أكثر فأكثر تدخليّة نظرا لقوّة تأثير الفئة الأولى في الدولة والتي جعلت منها سوقا عقاريا إدارياً.
ولكن استمرار الصراع داخل المجتمع الجزائري وكذا الدولة، أخذ شيئا فشيئا يعرف في نهاية السبعينيات نوعا من التوقّف، وبالمقابل أخذت السوق العقارية الحرة تعرف انبعاثا، من هذه المرحلة وخلال الثمانينيات، وظهر في الأخير مع نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات الاعتراف القانوني؛ لأنّ الصراع انحنى لصالح الفئة التي تناصر السوق العقارية الحرة.
ومن بين أهمّ الأسباب التي أدّت إلى ظهور هذه الوضعية الجديدة للسوق العقارية التغيرات السياسية الجذرية التي عرفتها الجزائر بالمصادقة على دستور 23 فيفرييه 1989 ، ودستور 28 نوفمبر 1996؛ ومن بنودهما الإقرار على مبادئ اقتصاد السوق، فهذه التغيرات السياسية والاقتصادية كانت لها نتائج مباشرة على النظام القانوني للأموال العقارية. وتجسّد هذا في القوانين المتعلّقة بتنظيم انتقال الأموال العقارية مثل: الهبة، المبادلة، البيع، الشراء ، التنازل، ... وفتح المجال للمهن الحرة المتعلقة بالأعوان القضائيين كالمحضّر القضائي والموثق والخبير العقاري ... بالنشاط لحسابهم الخاص.
غير أنّ هذه التغيّرات لم تؤسس سوق عقارية حرة بصفة نهائية فالصراع لم يحسم والدليل على ذلك التأجيل المستمر لبيع الأراضي الفلاحية التابعة للملكية الخاصة للدولة، والتسوية القانونية للأراضي التي بيعت من طرف البلديات .. فالتأسيس لسوق عقارية حرة بصفة نهائية سيخفّف من هذا الصراع ولكن لا ينهه، لأنّه أوّلا: فالإصلاحات تضمّنت في أدواتها القانونية الوسائل للحصول على العقار من طرف المجموعة الوطنية والتي تمثّل المصلحة العامة، مثل نزع الملكية للمنفعة العامة، حق الشفعة،...، وثانيا: فإنّ الأدوات القانونية تضمّنت وسائل لرقابة الملكية العقارية عن طريق منح الرخص القانونية، مثل: رخصة التجزئة، رخصة البناء، رخصة التقسيم، شهادة التعمير، شهادة المطابقة ... أي في إطار التخطيط العمراني.
إنّ الوظيفة الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالأموال العقارية هي التي تفسّر الترسانة القانونية التي تحيط بالتصرفات المختلفة بهذه الأموال.
ونخلص في النهاية أن السوق العقارية في الجزائر لازالت تتّسم بنظام قانوني غير مستقر. ومن أجل تحقيق هذا الهدف أي الوصول إلى نظام قانوني مستقر